لدكتور حسان شمسي باشا
الشعراء مثل كل المخلوقات ، ألم المرض بهم أو بأقربائهم ، فمنهم من تلقاه بالصبر
ورحابة الصدر ، ومنهم من حزن وسالت دموعه ، ومنهم من سخر من المرض وتصدى له .
وفي كل هذا وذاك أوحى المرض إليهم شعرا ، وفاضت أنفسهم بشعر نضحت حروفه بالحزن
والمرارة والألم .
وهذا أبو العتاهية في مرضه الأخير ، وقد أحس بقرب الأجل ،
ينظم قصيدة رائعة يرجو فيها عفو ربه، ويندم على ما أسرف من عمل في دنياه :
إلهي لا تعذبني فإني
مقر بالذي قد كـان مني
فما لي حيلة إلا رجائي
لعفوك فاحطط الأوزار عني
وكم من زلة لي في الخطايا
وأنت علي ذو فضل ومن
إذا فكرت في ندمي عليها
عضضت أناملي وقرعت سني
ومن الشعراء من سخط على المرض ، ونقم عليه ..
فهذا أبو القاسم الشابي وقد أصبح جل شعره مسطرا بالمرض ، فقد راح المرض ينخر في صدره ،
وصار شبحا لا يفارقه في ليل أو نهار .
وهذه قصيدة قالها قبل وفاته وهو في سن الخامسة والعشرين ، يقول :
سأعيش رغم الداء والأعداء
كالنسر فوق القمة الشماء
أدنو إلى الشمس المضية هازئا
بالسحب والأمطار والأنواء
لا ألمح الظل الكئيب ولا أرى
ما في قرار الهوة السوداء
فالمرض تسلل إلى ألفاظه ومعانيه: الداء والأعداء ،
والسحب والمطار والأنواء ، وهو يحاول التخلص منها ويتمرد تارة عليها فيقول :
فاصدم فؤادي ما استطعت فإنه
سيكون مثل الصخر الصماء
لا يعرف الشكوى الذليلة والبكا
وضراعة الأطفال و الضعفاء
ولكنه يبدو في النهاية ضعيفا أمام الداء ، إذ يقول :
أما إذا خمدت حياتي وانقضى
عمري وأخرست المنية نائي
وخبا لهيب الكون في قلبي الذي
قد عاش مثل الشعلة الحمراء
فأنا السعيد بأنني متحول
عن عالم الآثام والبــغضاء
* * *
أما الشاعر عبد السلام حافظ فقد أصيب بمرض في أحد صمامات قلبه ، فأثر فيه أشد تأثير ،
وطبع شعره بمسحة من الحزن . ويثور الشاعر مرة فيقول :
أنا لست وحدي في الحياة أعذب كل الوجود تألــم وتغرب
فمن يرى مصائب الآخرين تهون عليه مصيبته .
وهو يحمل بذلك إيمانا قويا ، ونظرة ثاقبة تتجاوز تلك النظرة السوداوية التي غلفت نفس الشاعر
وطبعت شعره بمسحة الحزن والألم :
أواه للقلب عانى بالقلاب صبا
وجاءه الألم المجــنون يخترم
أصاب صمامه ضيق يغلغله
ويرهب الجسم يا للنفس تنهدم
وفي قصيدة " راهب الفكر " يصف الشاعر عبد السلام حافظ معاناته مع مرضه فيقول :
أنا لوعة شوهاء يهواها النواح أنا ليل أحزان تجاهله الصباح
* * *
أنا عالم ضلت بمركبة الحياة
فغدا يصارع موجها العاتي الرهي
قلبي المجرح لا يجاب على نداه
والهم يأكل منه ألحــان اللهيب
أحيا بآلامي الكئيبة في متاه
شط السلامة من جحيمي لا أراه
وفي غمرة هذا كله يدرك الشاعر أن ليس للإنسان من ملجأ إلا الله ، فلا يشكو إلا لرب الأكوان .
يقول في قصيدة بعنوان ( إلى الله ) :
رباه هذه شكاة الكل يا أملي
البؤس والزمن الداجي وأسـقامي
إني بليت بداء القلب يحرمني
من متعة العيش والذكرى وأحلامي
أدعوك يا رب تفريجا لكربتنا
فجودك الخالد المحمود إلــهامي
من منحك العادل المرجو لضائقتي
فأنت كل الرجا يا رية الظـامـي
* * *
ومن الشعراء من أصاب المرض أبناءهم وبناتهم ،
فهذه الشاعرة عائشة التيمورية تنسج قصيدة من أجمل قصائدها
في بنتها (( توحيدة )) التي بلغت ثماني عشرة سنة فتزوجت .
فما مر على عرسها شهر حتى أصابها مرض مفاجئ فماتت .
وروعت الصدمة عائشة وشدهتها ، ونسيت كل شئ إلا ابنتها ، قالت فيها قصائد تبكي الصخر
وتحرك الجماد .
ومن أروع ما قالت هذه القصيدة التي تصف فيها بنتها
وقد رأت عجز الطبيب وتصورت الموت ، وراحت تودع أمها :
لما رأت يأس الطبيب وعجزه
قالت ودمع المقلتين غـزير
أماه قد كل الطبيب وفاتني
مما أؤمل في الحياة نــصير
لو جاء عراف اليمامة يبتغي
برئي لرد الطرف وهو حسير
يا روع روحي حلها نزع الضنى
عما قليل ورقهــا ستطير
أماه قد عز اللقاء وفي غد
سترين نعشي كالعروس يسير
وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي
هو منزلي وله الجموع تصير
قولي لرب اللحد رفقا بابنتي
جاءت عروسا ساقها التقدير
وتجلدي بإزاء لحدي برهة
فتراك روح راعها المقـدور
وتصوروا الأم وهي تعود إلى الدار فلا تلقى ابنتها ، وترى جهاز العرس ما زال باقيا ،
ويرن في أذنها صوت العروس تقول لها :
صوني جهاز العرس تذكارا فلي
قد كان منه إلى الزفاف سرور
جرت مصائب فرقتي لك بعد ذا
لبس السواد ونفذ المسطـور
أماه لا تنسي بحق بنوتي
قبري لئلا يحزن المقــبـور
فأجابتها أمها بالقول :
فأحببتها والدمع يحبس منطقي
والدهر من بعد الجوار يجـور
لا توص ثكلى قد أذاب فؤادها
حزن عليك وحسرة وزفـير
والله لا أسلو التلاوة والدعا
ما غردت فوق الغصون طيور
أبكيك حتى نلتقي في جنة
برياض خلد زينتها الحــور
وكتب الشاعر السوداني الأستاذ زكي مكي إسماعيل
ملحمة حزينة يودع فيها ابنته الصغيرة
( إرهاف ) التي فجر فقدها في أعماقه ينابيع الحزن ،
فانطلق يشدو شعرا رقيقا ممتزجا بمرارة الألم ولوعة الفراق :
إرهاف ترقد بالسرير عليلة
" ماما " تشاهدها فتنهمر الدموع
إرهاف تمنع أمها سيل الدموع
" أماه لا تبكي علي .. سأموت إن
تبكي علي " غدا ستنطفئ الشموع
إرهاف أكبر من مدارك طفلة
فاقت حصافتها الجموع
والأم تمسح دمعها وتقول :
" هيا اضحكي حتى أكفكف ذي الدموع "
إرهاف لم تفرح صباح العيد مثل
الآخرين !
حزنا عليك صغيرتي لو تعلمين !
إرهاف لم نذبح صباح العيد مثل الآخرين
هي سنة لله نذبحها على مر السنين
واليوم نتركها فداك حبيبتي
لا حلم لا حلوى ولا فستان
أبتاه يا إرهاف يعجز عن شراء
البنسلين !
ين الدراهم تفتديك حبيبتي
لتوفر الترياق للداء المكين ؟
* * *
إرهاف جاء البنسلين
إرهاف نأمل في الشفاء
والكل يرفع .. بالأكف إلى السماء
إرهاف ترتشف الدواء
لكنه مسخ يؤرقها وداء
الشعراء مثل كل المخلوقات ، ألم المرض بهم أو بأقربائهم ، فمنهم من تلقاه بالصبر
ورحابة الصدر ، ومنهم من حزن وسالت دموعه ، ومنهم من سخر من المرض وتصدى له .
وفي كل هذا وذاك أوحى المرض إليهم شعرا ، وفاضت أنفسهم بشعر نضحت حروفه بالحزن
والمرارة والألم .
وهذا أبو العتاهية في مرضه الأخير ، وقد أحس بقرب الأجل ،
ينظم قصيدة رائعة يرجو فيها عفو ربه، ويندم على ما أسرف من عمل في دنياه :
إلهي لا تعذبني فإني
مقر بالذي قد كـان مني
فما لي حيلة إلا رجائي
لعفوك فاحطط الأوزار عني
وكم من زلة لي في الخطايا
وأنت علي ذو فضل ومن
إذا فكرت في ندمي عليها
عضضت أناملي وقرعت سني
ومن الشعراء من سخط على المرض ، ونقم عليه ..
فهذا أبو القاسم الشابي وقد أصبح جل شعره مسطرا بالمرض ، فقد راح المرض ينخر في صدره ،
وصار شبحا لا يفارقه في ليل أو نهار .
وهذه قصيدة قالها قبل وفاته وهو في سن الخامسة والعشرين ، يقول :
سأعيش رغم الداء والأعداء
كالنسر فوق القمة الشماء
أدنو إلى الشمس المضية هازئا
بالسحب والأمطار والأنواء
لا ألمح الظل الكئيب ولا أرى
ما في قرار الهوة السوداء
فالمرض تسلل إلى ألفاظه ومعانيه: الداء والأعداء ،
والسحب والمطار والأنواء ، وهو يحاول التخلص منها ويتمرد تارة عليها فيقول :
فاصدم فؤادي ما استطعت فإنه
سيكون مثل الصخر الصماء
لا يعرف الشكوى الذليلة والبكا
وضراعة الأطفال و الضعفاء
ولكنه يبدو في النهاية ضعيفا أمام الداء ، إذ يقول :
أما إذا خمدت حياتي وانقضى
عمري وأخرست المنية نائي
وخبا لهيب الكون في قلبي الذي
قد عاش مثل الشعلة الحمراء
فأنا السعيد بأنني متحول
عن عالم الآثام والبــغضاء
* * *
أما الشاعر عبد السلام حافظ فقد أصيب بمرض في أحد صمامات قلبه ، فأثر فيه أشد تأثير ،
وطبع شعره بمسحة من الحزن . ويثور الشاعر مرة فيقول :
أنا لست وحدي في الحياة أعذب كل الوجود تألــم وتغرب
فمن يرى مصائب الآخرين تهون عليه مصيبته .
وهو يحمل بذلك إيمانا قويا ، ونظرة ثاقبة تتجاوز تلك النظرة السوداوية التي غلفت نفس الشاعر
وطبعت شعره بمسحة الحزن والألم :
أواه للقلب عانى بالقلاب صبا
وجاءه الألم المجــنون يخترم
أصاب صمامه ضيق يغلغله
ويرهب الجسم يا للنفس تنهدم
وفي قصيدة " راهب الفكر " يصف الشاعر عبد السلام حافظ معاناته مع مرضه فيقول :
أنا لوعة شوهاء يهواها النواح أنا ليل أحزان تجاهله الصباح
* * *
أنا عالم ضلت بمركبة الحياة
فغدا يصارع موجها العاتي الرهي
قلبي المجرح لا يجاب على نداه
والهم يأكل منه ألحــان اللهيب
أحيا بآلامي الكئيبة في متاه
شط السلامة من جحيمي لا أراه
وفي غمرة هذا كله يدرك الشاعر أن ليس للإنسان من ملجأ إلا الله ، فلا يشكو إلا لرب الأكوان .
يقول في قصيدة بعنوان ( إلى الله ) :
رباه هذه شكاة الكل يا أملي
البؤس والزمن الداجي وأسـقامي
إني بليت بداء القلب يحرمني
من متعة العيش والذكرى وأحلامي
أدعوك يا رب تفريجا لكربتنا
فجودك الخالد المحمود إلــهامي
من منحك العادل المرجو لضائقتي
فأنت كل الرجا يا رية الظـامـي
* * *
ومن الشعراء من أصاب المرض أبناءهم وبناتهم ،
فهذه الشاعرة عائشة التيمورية تنسج قصيدة من أجمل قصائدها
في بنتها (( توحيدة )) التي بلغت ثماني عشرة سنة فتزوجت .
فما مر على عرسها شهر حتى أصابها مرض مفاجئ فماتت .
وروعت الصدمة عائشة وشدهتها ، ونسيت كل شئ إلا ابنتها ، قالت فيها قصائد تبكي الصخر
وتحرك الجماد .
ومن أروع ما قالت هذه القصيدة التي تصف فيها بنتها
وقد رأت عجز الطبيب وتصورت الموت ، وراحت تودع أمها :
لما رأت يأس الطبيب وعجزه
قالت ودمع المقلتين غـزير
أماه قد كل الطبيب وفاتني
مما أؤمل في الحياة نــصير
لو جاء عراف اليمامة يبتغي
برئي لرد الطرف وهو حسير
يا روع روحي حلها نزع الضنى
عما قليل ورقهــا ستطير
أماه قد عز اللقاء وفي غد
سترين نعشي كالعروس يسير
وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي
هو منزلي وله الجموع تصير
قولي لرب اللحد رفقا بابنتي
جاءت عروسا ساقها التقدير
وتجلدي بإزاء لحدي برهة
فتراك روح راعها المقـدور
وتصوروا الأم وهي تعود إلى الدار فلا تلقى ابنتها ، وترى جهاز العرس ما زال باقيا ،
ويرن في أذنها صوت العروس تقول لها :
صوني جهاز العرس تذكارا فلي
قد كان منه إلى الزفاف سرور
جرت مصائب فرقتي لك بعد ذا
لبس السواد ونفذ المسطـور
أماه لا تنسي بحق بنوتي
قبري لئلا يحزن المقــبـور
فأجابتها أمها بالقول :
فأحببتها والدمع يحبس منطقي
والدهر من بعد الجوار يجـور
لا توص ثكلى قد أذاب فؤادها
حزن عليك وحسرة وزفـير
والله لا أسلو التلاوة والدعا
ما غردت فوق الغصون طيور
أبكيك حتى نلتقي في جنة
برياض خلد زينتها الحــور
وكتب الشاعر السوداني الأستاذ زكي مكي إسماعيل
ملحمة حزينة يودع فيها ابنته الصغيرة
( إرهاف ) التي فجر فقدها في أعماقه ينابيع الحزن ،
فانطلق يشدو شعرا رقيقا ممتزجا بمرارة الألم ولوعة الفراق :
إرهاف ترقد بالسرير عليلة
" ماما " تشاهدها فتنهمر الدموع
إرهاف تمنع أمها سيل الدموع
" أماه لا تبكي علي .. سأموت إن
تبكي علي " غدا ستنطفئ الشموع
إرهاف أكبر من مدارك طفلة
فاقت حصافتها الجموع
والأم تمسح دمعها وتقول :
" هيا اضحكي حتى أكفكف ذي الدموع "
إرهاف لم تفرح صباح العيد مثل
الآخرين !
حزنا عليك صغيرتي لو تعلمين !
إرهاف لم نذبح صباح العيد مثل الآخرين
هي سنة لله نذبحها على مر السنين
واليوم نتركها فداك حبيبتي
لا حلم لا حلوى ولا فستان
أبتاه يا إرهاف يعجز عن شراء
البنسلين !
ين الدراهم تفتديك حبيبتي
لتوفر الترياق للداء المكين ؟
* * *
إرهاف جاء البنسلين
إرهاف نأمل في الشفاء
والكل يرفع .. بالأكف إلى السماء
إرهاف ترتشف الدواء
لكنه مسخ يؤرقها وداء